جلسنا أمامها فأحسنت ضيافتنا كما تعودت وأخبرتنا أن بإمكاننا بدأ العمل. لقد كان الزبائن كثر والمقهى يعج بالحركة أخافتني قليلا رؤيتهم لي بحجابي فلم يتقبلوني لكن لم يكن هذا ليؤثر علي فحجابي هذا بعكس ما يظنه الكثير ليس وسيلة للتعبير عن الإرهاب وليس وسيلة للاضطهاد والأسر إنما هو أسمى من ذلك هو رمز للحياء و الحشمة رمز المرأة الملتزمة بدينها و بعزة نفسها لبسته عن قناعة تامة مني ولم يجبرني عليه أحد وهو ليس وسيلة لكبت المرأة بل وسيلة لسترتها وبيان حيائها , يختلف الكثيرون عند رؤية امرأة محجبة فتقول بعض النساء أنا لست عورة حتى أغطي جسدي , ومن قال عنك ذلك أنت الوحيدة التي تصف نفسها بالعورة و تعتقد أنه لا يجب عليها ارتداء الحجاب فقط لتعبر عن تمردها وسط مجتمعها , التمرد لم يكن ولن يكون أبدا في شعرك الطول ولا في سيقانك العارية وإنما يكون في عقلك و فكرك.
تتولى الأيام بسرعة جنونية و لكن حماستي لبدء دراسة كانت كبيرة رغم ما وجهته من مشاكل بسبب بعض المنغلقين فكريا. حدث الأمر في المقهى حين دخل أحد الرجال ضخم الجثة بعينين رماديتان و وشعر أبيض كليا كان أشبه بالشبح منه بإنسان في الحقيقة كان قسا وهذا اتضح لي من خلال الياقة البيضاء التي كان يرتديها حول عنقه بدل الربطة. تقدمت نحوه للترحيب به واخذ طلبه لكنه نظر نحوي بطريقة تنم عن حقد و غضب لم أفهم لما فأنا لم أقابله في حياتي كعادتي لم أهتم أخذت الطلب وذهبت لآتي به , وحين وصولي إلى طاولته حاملة كأس الشاي الساخن انتفض من مكانه وضرب الصينية التي كنت أحملها بكوعه وصرخ قائلا " أيتها الفاجرة" أسرعت بتغطية وجهي حتى لا أحترق لكنه استمر والناس كلها تتأمل لكن لا أحد تجرأ على الاقتراب صرخ في وجهي قائلا:
- أنتم المسلمين ستحترقون في نار جهنم كلكم أنتم قتلة... أنت مجرد فاجرة سأقتلك
وحمل أحد الكراسي ليضربني به لكن أسيل ارتمت عليه وسحبته من يده فدفعها لتسقط أمامي تمالكت نفسي بسرعة و هدأت كليا ساعدت صديقتي على النهوض و نظرت نحوه قائلة:
- أنت من الكنيسة الكاثوليكية صحيح ... تظن أنني فاجرة صحيح... أريد أن أسألك أيها التقي البار كم بلغ عدد الأطفال الذين اغتصبوا في كنيستكم أو كم بلغ عدد الذين سرقتم خبزهم لتعطوهم إياه فيما بعد تحت اسم المسيح كم من فتاة قتلتموها تحت اسم السحر و الشعوذة كم هو عدد الشباب الذين جعلتم منهم حثالة و زرعتم اليأس في قلوبهم كم بلغ عدد العلماء الذين قتلتموهم و سلبتم أبحاثهم لأنها تثبت كذبكم كم قتلتم من شخص منذ أن بدأت المسيحية إلى الآن فقط لتعلو سلطتكم سأقول لك دعنا من هذه الإحصائيات فهي عندكم شيء عادي أنتم تباركون المغتصب و تاجر المخدرات و تقولون أنكم ستدخلون الجنة بغير حساب مهما بلغة خطيئتكم سأقول لك أمرا ما رأيك في شخص اغتصب خمسين طفلا ما بين الخمسة و العشرة أعوام ثم قام بشقهم ليستخرج أعضاءهم و يبيعها ثم يرميهم في القمامة لتنهشهم الكلاب فلا يدفن أهلهم سوى قطع مما تبقى منهم لكنه لا يعذب لماذا؟ لأنه مسيحي ومهما كانت خطاياه سيدخل الجنة ولكن فلنفرض أن الأطفال كانوا مسلمين أو بوذيين أو هندوس سيدخلون النار أليس كذلك ... وأنا التي نعتني بالفاجرة لماذا؟ لأنني محتشمة وأغطي شعري و قمت بتقديم الشاي لك ثم ماذا تضرب صديقتي ألم تستطع أن تتطاول يدك على شخص من حجمك مسلمة محجبة و أفتخر وإن لم يعجبك هذا فالباب ضخم يسع جثتك بما أنك جثة بلا عقل
- أنت ...
ومد يده لكي يضربني لكنني لم أتحرك من مكاني شعرت بقوة لم أشهدها من قبل كنت استطيع قتله بيدي لو أنه لمسني لكن انتفض اثنان من الزبائن و امسكاه فسمعت إليزابيث التي شهدت كل شيء تقول بكل حزم:
- هذا المقهى ليس لمثلك من الحثالة إن كلمة قس هذه الأيام أصبحت ككلمة كلب لا فرق فالاثنان يجريان وراء شهوتاهما... إذا تكرمتما أيها سيدان أخرجاه من هنا.
حين خرج سمعته يشتم المرأة و الرجلين وما أضحكني أنه قال لأحدهما "سأدعو الرب ليلعنك" فابتسم وقال " لا جديد في الأمر" وفجأة سمعت تصفيقات و هتفات قالت لي " أحسنت أريته حجمه..." في الحقيقة لم أكن أنتظر كل هذا فقد ظننت أنهم سيقفون مع القس ويساندونه. استرسلت إليزابيث في قولها " أنا مع حرية المرأة كائنة من تكون ومن لم يحترم بناتي فلا مكان يسعه هنا" لقد كانت تعد نادلات المقهى كبناتها تماما تستمع لهن و تساندهن تقدم لهن الدعم والتشجيع وتحن عليهن. ذهبت بسرعة إلى الحمام و نظرت في المرآة متغيرة أنا... هذا ما تبادر إلى ذهني لكن تلك الدمعة التي أرادت الخروج منعتها فقد قطعت عهدا على نفسي ألا أبكي مجددا عندها دخلت أسيل فسألتها:
- هل أنت بخير هل آذاك؟
- لا أنا بخير وأنت ؟
- لا تقلقي أنا بخير شكرا لك على مساعدتي
- أنت تمزحين ما كنت لأسمح له أن يؤذيك فأنت صديقتي ...ألسنا صديقات
- بل وأعز من ذلك
كانت أسيل شديدة الأنوثة ورقة في نفس الوقت تؤلمها الكثير من الكلمات فقد كانت فتاة جذابة بشعر بني طويل وعينين عسليتين بقامة رشيقة تحب كل ما يعلق بالأناقة, تعجبني حين تظهر قسوتها في بعض المواقف لكنني أدرك أن في داخلها فتاة حساسة تدعي دائما عدم الاهتمام حتى بمن تحب لكنها في الداخل تهتم قد يدل على ذلك بعض تصرفاتها العفوية , من لا يعرفها يقول عنها متكبرة و متعجرفة لا تحب إلا نفسها قد يكون مصيبا في آخر نقطة فهي تعشق نفسها و هذا من حقها كما هو من حق كل البشر فلا يوجد حب اقوى و يعود على صاحبه بالفائدة مثل حب النفس لكن لا يجب أن يصل حد الأنانية الغرور إن أحسنت حب نفسك و تواضعت بها ترفع و إن لم تحسن تذل و تسقط ,تكره الرجال كثيرا بسبب ما مرت به في حباتها لا تحب التعامل معهم و لا تستطيع أن تقع في حب أي أحد لكن أظن أن الأمر تغير في تلك اللحظة عندما ذهبت لتتلقى طلب أحد الشباب الجالسين لوحده مستغرقا في سماع الموسيقى لم تنتبه له في أول مرة فلم تنظر إليه حتى, لكن حين عادت بالطلب تعثرت فسقت أمامه فانتفض فورا لمساعدتها فرفعت رأسها نحو ذلك الشاب الذي انحنى ليساعدها على جمع قطع الزجاج هنا و في تلك اللحظة تغير كل شيء أحست بثورة بانتفاضة مشاعر اجتاحتها شاب أسمر في الرابع والعشرين من عمره بشعر اصفر وعينين خضراوين بجسم رشيق و طويل. في الحقيقة كانت النظرة متبادلة فقد بدا عليه نوع من الامتنان للكأس التي سقت لتجمعهما هذا ما ظننت في تلك اللحظة.لكن أسيل انتفضت من مكانها بسرعة محاولة إخفاء مشاعرها ردت بحزم:
- شكرا لك على المساعدة لكن هذا عملي وأنا آسفة على الخطأ الذي بدر مني
- لا...لا عليك.
اتجهت بسرعة إلى المطبخ أين كنت أنا وقالت بنبرة حادة خالطها الكثير من الغضب:
- لماذا لم تأت لمساعدتي ألم تسمعي تحطم الزجاج؟
- لقد قام بعمل رائع على ما أعتقد [أجبتها بنبرة مزاح واضحة]
- [لم تتقبل مزاحي وانفجرت كالقنبلة في وجهي] أنت تعلمين أنني أكره هذا النوع من الكلام إياك و إعادته مرة أخرى
- أسيل اذهبي واغسلي وجهك و تعلمي طريقة أمثل لمخاطبتي في المرة القادمة.
ذهبت وتركتها لتهدأ أعدت أحذ طلب الفتى الذي بدا لي منغمسا في النظر ناحية المطبخ لعله يلمحها مرة أخرى لذا فقد فاجأته حين تكلمت. في المساء عدت إلى البيت استحممت و صليت فروضي و استلقيت أقرأ لملأ الوقت حتى يحين وقت العشاء فاقتربت مني قائلة:
- حسنا أنا آسفة لم يكن علي رفع صوتي عليك فلا تغضبي
- ومن قال أني غاضبة أصلا فقد تعلمت شيئا خلال أعوامي الفائتة أن غضبي لا يضر أحدا سواي
- ماذا يعني هذا سامحتني أم لا ؟
- أنت أختي ولا يجوز لأخت أن تغضب من أختها مهما بلغ الأمر بينهما ثم لم يكن من حقي أن أتحدث فأنت حرة في حياتك